فصل: مطلب فِي كَرَاهَةِ مُبَاشَرَةِ الْأَذَى بِالْيَدِ الْيُمْنَى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا

وَأَنَّهُ احْتِقَارٌ لِلنِّعْمَةِ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَكْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَالَ كَوْنِهِ ‏(‏مُتَّكِئًا‏)‏ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا ‏"‏ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ‏:‏ الْمُتَّكِئُ هُوَ الْمَائِلُ يَعْنِي فِي جِلْسَتِهِ عَلَى جَنْبِهِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِمُطْمَئِنٍّ ‏.‏

قَالَ الْعَلَامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ‏:‏ ‏"‏ لَا آكُلُ مُتَّكِئًا ‏"‏ أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ ‏,‏ بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ ضَرَبَهُ فَأَتْكَأَهُ كأخرجه أَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَّكِئِ أَوْ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ ‏,‏ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لَا آكُلُ مُتَّكِئًا ‏"‏ الْمُتَّكِئُ هُنَا الْجَالِسُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ تَحْتَهُ قَالَ وَأَرَادَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْوِطَاءِ ‏,‏ وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ مَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطَّعَامِ ‏,‏ بَلْ يَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا لَا مُسْتَوْطِئًا وَيَأْكُلُ بُلْغَةً ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الشُّرْبِ ‏,‏ وَالْأَكْلِ قَائِمًا فِي مَحَلِّهِ ‏,‏ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَرَاهَةُ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا ‏,‏ وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ ‏,‏ وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ ‏,‏ وَيُكْرَهُ عَيْبُ طَعَامٍ وَأَكْلُهُ مِنْ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ وَمُتَّكِئًا ‏,‏ وَفِي الْغُنْيَةِ وَعَلَى طَرِيقِ وَعِبَارَةِ الْآدَابِ‏:‏ وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مُتَّكِئًا وَمُضْطَجِعًا ‏.‏

زَادَ فِي الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ ‏,‏ أَوْ مُنْبَطِحًا انْتَهَى ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هُبَيْرَةَ‏:‏ أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ فِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ عَنْهُ ‏,‏ فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْأَدَبِ ‏,‏ وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ ‏.‏

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةِ شُرِبَ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ ‏,‏ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ ‏.‏

وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مُتَّكِئًا ‏;‏ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا ‏,‏ وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ ‏,‏ وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ مُدَلِّسٌ ‏,‏ وَفِي رِجَالِهِ عُمَرُ الشَّامِيُّ مَجْهُولٌ ‏,‏ وَلَفْظُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ جُعِلَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فَأَكَلَ مُتَّكِئًا وَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ فَلَبِسَ الظُّلَّةَ ‏"‏ قُلْت‏:‏ وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ‏,‏ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ نَفْسِهِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا وَقْتًا يَسِيرًا ‏,‏ ثُمَّ تَرَكَهُ ‏"‏ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السِّيَرِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الشَّامِيُّ فِي سِيرَتِهِ هَذَا مَعَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مُتَّكِئًا ‏"‏ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ‏:‏ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَكَلْت وَأَنْتَ مُتَّكِئٌ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْك فَأَصْغَى بِجَبْهَتِهِ إلَى الْأَرْضِ ‏,‏ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَنَا جَالِسٌ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ‏,‏ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَفِزُ ‏,‏ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ هَدِيَّةً فَجَعَلَ يَقْسِمُهُ ‏,‏ وَهُوَ مُحْتَفِزٌ يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا ‏"‏ ‏,‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا ‏"‏ ‏.‏

نَعَمْ فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ فَرَأَيْته يَأْكُلُ مُتَّكِئًا ‏"‏ ‏,‏ وَهَذَا كَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا ‏,‏ ثُمَّ نُسِخَ يَدُلُّ لَهُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ الْمَلَكُ‏:‏ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا ‏,‏ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ ‏,‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا ‏"‏ فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا ‏,‏ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُقَاوِمُ حَدِيثَ مُسْلِمٍ ‏,‏ قُلْنَا‏:‏ نَعَمْ وَلَكِنْ صَرَّحَ الصَّحَابِيُّ بِمَا يَخُصُّ إطْلَاقَ ذَاكَ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ بِالزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ‏,‏ وَعَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ فِعْلُهُ بَعْدَ النَّهْيِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏دَدْ‏)‏ أَيْ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الدَّدُ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ كَالدَّدِ يَعْنِي أَنَّهُ إنَّمَا أَكَلَ مُتَّكِئًا لِأَجْلِ اللَّهْوِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالْآدَابِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ

أَوْ أَكْثَرَ وَأَكْلَكَ بِالثِّنْتَيْنِ ‏,‏ وَالْأُصْبُعِ اكْرَهْنَ وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعَرْفِ إتْيَانَ مَسْجِدِ ‏(‏و‏)‏ أَكْرَهُ أَيْضًا ‏(‏أَكْلُك‏)‏ أَيُّهَا الْآكِلُ ‏(‏بِالثِّنْتَيْنِ‏)‏ مِنْ أَصَابِعِك ‏;‏ لِأَنَّهُ كِبْرٌ ‏(‏و‏)‏ كَذَا الْأَكْبَرُ بِ ‏(‏الْأُصْبُعِ‏)‏ الْوَاحِدَةِ ‏(‏اكرهن‏)‏ فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ ‏;‏ لِأَنَّهُ مَقْتٌ ‏,‏ وَكَذَا بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَبِخَمْسٍ ‏;‏ لِأَنَّهُ شَرَهٌ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ‏:‏ وَلِأَنَّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعَيْنِ يَطُولُ حَتَّى يَشْبَعَ وَلَا تَفْرَحُ الْمَعِدَةُ ‏,‏ وَالْأَعْضَاءُ بِذَلِكَ لِقِلَّتِهِ كَمَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا لَا يَسْتَلِذُّ بِهِ وَلَا يُمْرِئُهُ ‏,‏ وَبِأَرْبَعِ أَصَابِعَ قَدْ يَغَصُّ بِهِ لِكَثْرَتِهِ ‏,‏ وَالْمُرَادُ أَلَّا يَتَنَاوَلَ عَادَةً وَعُرْفًا بِأُصْبُعٍ ‏,‏ أَوْ أُصْبُعَيْنِ ‏,‏ فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِيهِ ‏,‏ وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مُنْتَفٍ فِيهِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ‏;‏ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ‏,‏ فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا ‏"‏ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْمِلْعَقَةَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ عليه السلام

‏(‏فَائِدَةٌ‏)‏ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ ‏.‏

وَذَكَرَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْمِلْعَقَةَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وأتم التَّسْلِيمِ ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ أَكْلِ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ خَبِيثَةٍ

وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ مَسْأَلَةَ كَرَاهَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِذِي رِيحٍ مُنْتِنَةٍ ‏;‏ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ الْأَكْلِ غَالِبًا ‏.‏

فَقَالَ ‏(‏وَمَعَ أَكْلِ‏)‏ شَيْءٍ ‏(‏شَيْنٍ‏)‏ مَأْخُوذٌ مِنْ شَانَهُ يَشِينُهُ ضِدَّ زَانَهُ يَزِينُهُ أَيْ قَبِيحٍ ‏(‏الْعَرْفُ‏)‏ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الرِّيحُ طَيِّبَةٌ ‏,‏ أَوْ مُنْتِنَةٌ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّيِّبَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ هَكَذَا فِي عِدَّةِ نُسَخٍ ‏,‏ وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي شَرَحَ عَلَيْهَا الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله وَمَعَ نَتِنٍ بَدَلُ شَيْنٍ بِإِسْقَاطِ لَفْظَةِ أَكْلِ وَبَعْدَهَا اكْرَهْ ‏(‏إتْيَانَ مَسْجِدٍ‏)‏ فَتَصِيرُ عَلَى الَّتِي شَرَحَ عَلَيْهَا الْحَجَّاوِيُّ وَمَعَ نَتِنِ الْعَرْفِ واكره إتْيَانَ مَسْجِدٍ وَالنَّتْنُ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ وَاَلَّتِي فِي النَّسْخِ سِوَاهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ ‏,‏ وَالْمَعْنَى أَمَّا اللَّفْظُ ‏,‏ فَإِنَّهُ أَرْشَقُ فِي الْعِبَارَةِ وَأَسْلَسُ فِي النَّظْمِ ‏,‏ وَالْوَزْنِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْعِلَلِ ‏,‏ فَإِنَّ وَزْنَهُ مُسْتَقِيمٌ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ رحمه الله ‏,‏ وَأَمَّا الْمَعْنَى ‏,‏ فَإِنَّ تَكْرَارَ الْكَرَاهَةِ فِي الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ غَيْرُ رَشِيقٍ فِي الْمَعْنَى ‏.‏

نَعَمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الرِّيحِ الْكَرِيهِ نَاشِئًا عَنْ أَكْلٍ ‏,‏ أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْ عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَفُجْل وَكُرَّاتٍ لِأَجْلِ رَائِحَتِهِ الْخَبِيثَةِ سَوَاءٌ أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ ‏,‏ أَوْ لَمْ يُرِدْ ‏.‏

نَعَمْ تَتَأَكَّدُ الْكَرَاهَةُ لِمُرِيدِ الْمَسْجِدِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ‏:‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ ‏"‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ‏,‏ فَإِذَا أَكَلَهُ فَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ زَوَالِ رَائِحَتِهِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا ‏"‏ ‏,‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏,‏ وَلَيْسَ أَكْلُ ذَلِكَ بِمُحَرَّمٍ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلَيْهِ بِطَعَامٍ لَمْ يَأْكُلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الثُّومُ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَرَامٌ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا ‏,‏ وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ ‏"‏ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ ‏;‏ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَلِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ ‏,‏ وَفِي أَكْلِهِ أَذَاهُمْ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ ‏,‏ وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْضَجُ بِطَبْخٍ ‏,‏ وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى آدَابِ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ وَافْتَقَدَهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

 مطلب فِي كَرَاهَةِ مُبَاشَرَةِ الْأَذَى بِالْيَدِ الْيُمْنَى

وَأَنَّهَا لِمَا شَرُفَ ‏,‏ وَالْيُسْرَى لِمَا خَبُثَ ‏.‏

وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى وَأَوْسَاخِهِ مَعَ نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ الرَّدِي ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ لِكُلِّ أَحَدٍ ‏(‏بِ‏)‏ الْيَدِ ‏(‏الْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى‏)‏ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِلَا حَاجَةٍ ‏,‏ وَالْجَارُ ‏,‏ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ مُبَاشَرَةُ ‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ ‏(‏أَوْسَاخِهِ‏)‏ أَيْ دَرَنِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذَرِ مِثْلُ الِامْتِخَاطِ ‏(‏مَعَ‏)‏ أَيْ كَمَا يُكْرَهُ مُبَاشَرَةُ ‏(‏نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ‏)‏ أَيْ اسْتِنْثَارِ الْمَاءِ مِنْ أَنْفِهِ ‏(‏الرَّدِي‏)‏ أَيْ الْقَذِرِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ‏,‏ وَكَذَا مَاءُ الْوُضُوءِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِنْثَارُهُ بِالْيُسْرَى وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى ‏,‏ وَكَذَا تَنْقِيَةُ وَسَخِ الْأُذُنِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ ‏.‏

كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاؤُهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ورا ظَهْرِهِ اشْهَدْ و ‏(‏كَذَا‏)‏ يُكْرَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ خَلْعُ نَعْلَيْهِ‏:‏ تَثْنِيَةُ نَعْلٍ ‏,‏ وَهُوَ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ مِنْ الْأَرْضِ كالنعلة مُؤَنَّثَةٍ وَجَمْعُهُ نِعَالٌ وَنَعْلٌ كفرح وَتَنَعَّلَ وَانْتَعَلَ لَبِسَهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ ‏,‏ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ النَّعْلُ مُؤَنَّثَةٌ ‏,‏ وَهِيَ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْمَشْيِ تُسَمَّى الْآنَ تاسومة ‏.‏

وَمِثْلُ النَّعْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ الْخُفَّيْنِ ‏,‏ والجرموقين فَيُكْرَهُ خَلْعُ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ ‏(‏بِهَا‏)‏ أَيْ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ‏;‏ لِأَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى يُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَتُهَا لِلْخَيْرَاتِ وَتَقْدِيمُهَا فِي الْقُرُبَاتِ فَهِيَ لِمَا شَرُفَ ‏,‏ وَالْيُسْرَى لِمَا خَبُثَ فَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ ‏,‏ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَالنَّعْلِ وَالسَّرَاوِيلِ ‏,‏ وَالْخُفِّ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالِاكْتِحَالِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ ‏,‏ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ‏,‏ وَالْمُصَافَحَةِ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ‏,‏ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ ‏,‏ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ نَحْوِ السُّلُوكِ فَيَبْتَدِئُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِنْ فَمِهِ ‏,‏ وَأَمَّا إمْسَاكُ السِّوَاكِ حَالَ التَّسَوُّكِ فَبِالْيُسْرَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ ‏;‏ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ ‏.‏

وَأَمَّا مَا خَبُثَ مِنْ نَحْوِ تَقْدِيمِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِلْخَلَاءِ ‏,‏ وَالْحَمَّامِ وَالِامْتِخَاطِ وَالِاسْتِنْجَاءِ ‏,‏ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ فَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ بِالْيُسْرَى ‏.‏

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا ‏"‏ كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ ‏,‏ وَالْيُسْرَى لِخَلَائِهِ ‏,‏ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ‏.‏

وَقَالَتْ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ ‏,‏ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ‏"‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ‏.‏

وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ ‏,‏ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ ‏"‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏و‏)‏ يُكْرَهُ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ ‏(‏اتِّكَاؤُهُ‏)‏ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْأَكْلِ ‏,‏ أَوْ غَيْرِهِ ‏(‏عَلَى يَدِهِ‏)‏ أَيْ يَدِ نَفْسِهِ ‏(‏الْيُسْرَى‏)‏ حَالَ كَوْنِهَا ‏(‏وَرَاءَ‏)‏ أَيْ خَلْفَ ‏(‏ظَهْرِهِ‏)‏ ‏;‏ لِأَنَّهَا جِلْسَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏(‏اشْهَدْ‏)‏ ذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ مَكْرُوهًا فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ شَهِدَ ‏.‏

وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الرَّشِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا ‏,‏ وَقَدْ وَضَعْت يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأَتْ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ‏:‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏؟‏ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ هَذَانِ الْبَيْتَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَجَّاوِيُّ هُنَا فَقَلَّدْنَاهُ وَإِلَّا فَهُمَا فِي اللِّبَاسِ كَمَا فِي النُّسَخِ فَتَفَطَّنْ لَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي حُكْمِ الْقِرَانِ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ

وَفِيهِ تَحْقِيقٌ مُهِمٌّ وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لَا فِي التَّفَرُّدِ ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ لِكُلِّ أَحَدٍ بِلَا حَاجَةٍ ‏(‏فِي التَّمْرِ‏)‏ ‏,‏ وَهُوَ جَنَى النَّخْلِ وَاحِدَتُهُ تَمْرَةٌ ‏(‏الْقِرَانُ‏)‏ بِأَنْ يَجْمَعَ فِي حَالِ أَكْلِهِ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ ‏(‏وَنَحْوُهُ‏)‏ أَيْ نَحْوُ التَّمْرِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا مِثْلُهُ فِي الْحُك بِأَنْ يَجْمَعَ فِي حَالِ أَكْلِهِ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ ‏(‏وَنَحْوُهُ‏)‏ أَيْ نَحْوُ التَّمْرِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَالْقِرَانُ بَيْنَ غَيْرِ التَّمْرِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي الْفَوَاكِهِ ‏,‏ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ‏,‏ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه‏:‏ وَعَلَى قِيَاسِ التَّمْرِ كُلُّ مَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا ‏.‏

وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْقِرَانِ إلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَك ‏"‏ فَالْقِرَانُ بِكَسْرِ الْقَافِ هُوَ أَنْ يَقْرِنَ التَّمْرَةَ مَعَ أُخْتِهَا وَيَرْفَعَهُمَا إلَى فِيهِ جَمِيعًا ‏(‏وَقِيلَ‏)‏ الْكَرَاهَةُ إنَّمَا تَكُونُ ‏(‏مَعَ التَّشْرِيكِ‏)‏ بِأَنْ كَانَ شَرِيكًا مَعَ غَيْرِهِ ‏;‏ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ اخْتِصَاصُهُ بِأَزْيَدَ عَنْ شَرِيكِهِ ‏.‏

فَعَلَى هَذَا ‏(‏لَا‏)‏ يُكْرَهُ الْقِرَانُ ‏(‏فِي التَّفَرُّدِ‏)‏ أَيْ فِي أَكْلِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ شَرِيكٍ وَلَا مَعَ أَهْلِهِ وَلَا مَعَ مَنْ أَطْعَمَهُمْ ذَلِك كَمَا فِي الرِّعَايَةِ ‏,‏ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ‏:‏ وَتَرْكُهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَأَحْسَنُ ‏,‏ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّرْغِيبِ ‏.‏

فَإِنْ قُلْت‏:‏ النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَا لَكُمْ لَمْ تَقُولُوا بِالْحُرْمَةِ هَهُنَا‏؟‏ فَالْجَوَابُ كَمَا فِي وَاضِحِ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا النَّهْيَ قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَقْلًا عِنْدَنَا ‏,‏ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ فَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ أَشْيَاءَ الْأَوْلَى تَرْكُهَا لَا لِقُبْحِهَا كَالْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ ‏,‏ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَنَارَةِ وَالشُّرْبِ مِنْ ثَلْمَةِ الْإِنَاءِ كَذَا قَالَ ‏,‏ وَمُرَادُهُ رحمه الله تعالى نَفْيُ كَوْنِ الْعَقْلِ يُحَسِّنُ ‏,‏ أَوْ يُقَبِّحُ قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ‏:‏ وَالْحَسَنُ شَرْعًا ‏,‏ وَالْقَبِيحُ شَرْعًا مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ‏,‏ وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْحُسْنِ ‏,‏ وَمَا نَهَى عَنْهُ ‏,‏ وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْقَبِيحِ قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَلِ‏:‏ إذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلٍ فَهُوَ حَسَنٌ بِالِاتِّفَاقِ ‏,‏ وَإِذَا نَهَى عَنْ فِعْلٍ فَقَبِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قِرَانِ التَّمْرِ التَّحْرِيمُ وَعَنْ غَيْرِهِمْ لِلْكَرَاهَةِ ‏,‏ وَالْأَدَبِ ‏.‏

وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ ‏,‏ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ إلَّا بِرِضَاهُمْ بِقَوْلٍ ‏,‏ أَوْ قَرِينَةٍ يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ ‏,‏ أَوْ ظَنٌّ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ ‏,‏ أَوْ لِأَحَدِهِمْ اُشْتُرِطَ رِضَاهُ وَحْدَهُ ‏,‏ فَإِنْ قَرَنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَحَرَامٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ ‏,‏ وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ فَحَسَنٌ أَنْ لَا يَقْرِنَ لِيُسَاوِيَهُمْ إنْ كَانَ فِيهِ قِلَّةٌ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَفْضُلُ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ لَكِنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقًا الْأَدَبُ وَتَرْكُ الشَّرَهِ ‏.‏

نَعَمْ يَطْلُبُ إذْنَهُمْ ‏,‏ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا وَيُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ ‏.‏

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زَمَنِهِمْ حِينَ كَانَ الطَّعَامُ ضَيِّقًا ‏,‏ فَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ ‏,‏ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجُلُوسِ لِلطَّعَامِ

وَكُلْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبَ الْيَمِينِ وَبَسْمِلْ ‏,‏ ثُمَّ فِي الْاِنْتِهَا احْمَدْ ‏(‏وَكُلْ‏)‏ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ أَكَلَ ‏,‏ وَهُوَ لِلنَّدْبِ فَيُسَنُّ أَكْلُك حَالَ كَوْنِك ‏(‏جَالِسًا فَوْقَ‏)‏ رِجْلِك ‏(‏الْيَسَارِ وَنَاصِبَ‏)‏ الرِّجْلِ ‏(‏الْيَمِينِ‏)‏ مِنْك وَمُسْنِدًا بَطْنَك إلَى فَخِذِك الْيَمِينِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ‏:‏ لِئَلَّا يَحْصُلَ الِامْتِلَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ‏,‏ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِإِسْنَادِ فَخِذِهِ لِبَطْنِهِ لَا يَحْصُلُ تَمَامُ امْتِلَاءٍ لِعَدَمِ افْتِرَاشِ الْبَطْنِ ‏,‏ وَفِي الرِّعَايَةِ ‏,‏ أَوْ يَتَرَبَّعُ وَذَكَرَ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا ‏,‏ وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ ‏,‏ وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ‏:‏ الْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ ‏,‏ أَوْ يَجْلِسَ وَيَنْصِبَ الرِّجْلَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى الْيُسْرَى ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ‏:‏ وَيُذْكَرُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ الْيُمْنَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ‏:‏ وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا ‏;‏ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ انْتَهَى ‏(‏وَبَسْمِلْ‏)‏ أَمْرٌ مِنْ بَسْمَلَ يُبَسْمِلُ أَيْ قُلْ فِي ابْتِدَاءِ أَكْلِك وَشُرْبِك بِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ وَفِي نُسْخَةٍ وَسَمِّ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ بَسْمَلَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ‏:‏ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعَالِبِيُّ فِي كِتَابِهِ فِقْهِ اللُّغَةِ‏:‏ الْبَسْمَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّبْحَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ ‏,‏ وَالْهَيْلَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ‏:‏ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ‏,‏ وَالْحَوْقَلَةُ ‏,‏ وَالْحَوْلَقَة حِكَايَةُ قَوْلِ‏:‏ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ‏,‏ وَالْحَمْدَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏,‏ وَالْحَيْعَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ‏:‏ حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ والطبلقة‏:‏ أَطَالَ اللَّهُ بقاك والدمعزة‏:‏ أَدَامَ اللَّهُ عِزَّك ‏,‏ والجعلفة جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك انْتَهَى ‏.‏

فَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ إرَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ وَقَبْلَ أَنْ يَضَعَ الْإِنَاءَ عَلَى فِيهِ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ وَهِيَ بَرَكَةُ الطَّعَامِ فَيَكْفِي الْقَلِيلُ بِهَا وَبِدُونِهَا لَا يَكْفِي كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَرَّبَ طَعَامًا فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً فِي أَخِرِهِ فَقُلْنَا‏:‏ كَيْفَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا ‏,‏ ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَنَا مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَدُ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ لَوْ زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ عِنْدَ الْأَكْلِ - يَعْنِي وَالشُّرْبِ - كَانَ حَسَنًا ‏,‏ فَإِنَّهُ أَكْمَلُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ ‏,‏ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ‏:‏ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ ‏.‏

وَنَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه جَعَلَ عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ يُسَمِّي وَيَحْمَدُ ‏,‏ وَقَالَ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْت ‏.‏

وَدَلِيلُ سُنِّيَّةِ الْإِتْيَانِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّعَامِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ‏,‏ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ طَعَامَهُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعْرَابِيُّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَمَّا أَنَّهُ لَوْ سَمَّى كَفَّاكُمْ ‏"‏ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ ‏"‏ ‏,‏ فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ‏,‏ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ‏"‏ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ مُفْرَدَةٌ ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ‏:‏ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ ‏,‏ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ‏:‏ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ ‏,‏ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ‏:‏ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ ‏,‏ وَالْعَشَاءَ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب يُسَمِّي الشَّارِبُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ

‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ ذَكَرَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّارِبَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ ‏;‏ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ فِعْلٍ كَالْأَوَّلِ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ آكَدُ ‏.‏

وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الشَّارِبَ إمَّا لِقِلَّتِهِ فَلَا يَشُقُّ التَّكْرَارُ ‏,‏ وَإِمَّا لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَأْمُورٌ بِهَا فَاسْتُحِبَّ فِيهَا مَا اُسْتُحِبَّ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ التَّكْرَارُ ‏,‏ وَالْقَطْعُ فِيهِ أَمْرٌ عَادِيٌّ ‏,‏ وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ ‏,‏ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ‏.‏

قَالَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهَيمَ تَعَشَّيْت مَرَّةً أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَابَةٌ لَهُ فَجَعَلَنَا لَا نَتَكَلَّمُ ‏,‏ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏,‏ وَبِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ قَالَ‏:‏ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلَمْ أَجِدْهَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ ‏,‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ رضي الله عنه اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمٍ أَكَلُوا مَعَهُ ‏"‏ يَا بَنِيَّ لَا تَدَعُوا أَنْ تَأْدِمُوا أَوَّلَ طَعَامِكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ‏.‏

أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ‏"‏ ‏,‏ وَكَذَا قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ ‏"‏ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ‏"‏ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ وَجْهُ الْأَوَّلِ يَعْنِي الِاكْتِفَاءَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ‏.‏

وَالْحَمْدَلَةُ فِي الِانْتِهَاءِ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ ‏,‏ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّسْمِيَةِ أَوَّلًا ‏,‏ وَالْحَمْدِ أَخِيرًا ‏,‏ وَلَوْ كَانَ يَعْنِي تَكْرَارَ ذَلِكَ مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ مُسْتَحَبًّا لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا ‏,‏ أَوْ فِعْلًا ‏,‏ وَلَوْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ ‏,‏ بَلْ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ ‏,‏ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم الْغَايَةُ فِي فِعْلِ الْفَضَائِلِ ‏,‏ وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ ‏,‏ وَالْمَشْهُورُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِيمَا يَقُولُهُ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ آخِرَ طَعَامِهِ

مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ بَعْدَ فَرَاغِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ‏(‏فِي الِانْتِهَاءِ‏)‏ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ‏(‏احْمَدْ‏)‏ اللَّهَ تَعَالَى فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ حَمِدَ يَحْمَدُ يَعْنِي اثْنِ عَلَى اللَّهِ وَاشْكُرْهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ الَّذِي أَسْدَى لَك هَذِهِ النِّعَمَ وَسَوَّغَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى حَصَلَ لَك بِهِمَا الْغِذَاءَ فَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحْمَدَ لِذَاتِهِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْحَمْدُ لَهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ مَعَ نِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمِنَنِهِ الْمُتَوَاصِلَةِ ‏.‏

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ‏:‏ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ‏,‏ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ‏"‏ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ‏"‏ الْأَكْلَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْأَكْلِ وَقِيلَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ‏,‏ وَهِيَ اللُّقْمَةُ ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ وَبُسْرٌ ‏"‏ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ‏"‏ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ هَذَا هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلْ إذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ ‏,‏ فَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا فَأَفْضَلُ ‏,‏ فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَذَا ‏"‏ ‏,‏ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَكَلَ ‏,‏ أَوْ شَرِبَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ ‏,‏ وَقَالَ مَرَّةً إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَآوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ رَبَّنَا وَمَكْفِيٍّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْفَصِيحَةُ وَرَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ بِالْهَمْزِ قَالَ النَّوَوِيُّ‏:‏ وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْكِفَايَةِ أَوْ مِنْ كَفَافِ الْإِنَاءِ كَمَا لَا يُقَالُ فِي مَقْرُوٍّ مُقْرِئٍ وَلَا فِي مَرْمِيٍّ مُرْمِئٍ بِالْهَمْزِ ‏.‏

قَالَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ‏:‏ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَذْكُورِ كُلِّهِ الطَّعَامُ ‏,‏ وَإِلَيْهِ يَعُودُ الضَّمِيرُ ‏.‏

قَالَ الْحَرْبِيُّ‏:‏ فَالْمَكْفِيُّ الْإِنَاءُ الْمَقْلُوبُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ كَمَا قَالَ غَيْرَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ‏,‏ أَوْ لِعَدَمِهِ ‏.‏

وَقَوْلُهُ غَيْرَ مَكْفُورٍ أَيْ غَيْرَ مَجْحُودَةٍ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ‏,‏ بَلْ مَشْكُورَةٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ الِاعْتِرَافُ بِهَا ‏,‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا ‏,‏ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ الْمُرَادُ بِهَذَا الدُّعَاءِ كُلِّهِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ‏,‏ وَأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَيْهِ ‏,‏ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ غَيْرَ مَكْفِيٍّ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ كَأَنَّهُ عَلَى هَذَا مِنْ الْكِفَايَةِ ‏,‏ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ مِنْ مُعِينٍ وَظَهِيرٍ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَوْلُهُ وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ ‏,‏ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ وَيَنْتَصِبُ ‏"‏ رَبَّنَا ‏"‏ عَلَى هَذَا بِالِاخْتِصَاصِ ‏,‏ وَالْمَدْحِ ‏,‏ أَوْ بِالنِّدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ يَا رَبَّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا ‏,‏ وَمَنْ رَفَعَهُ قَطَعَهُ وَجَعَلَهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَلِكَ هُوَ رَبُّنَا ‏,‏ أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا ‏,‏ وَيَصِحُّ كَسْرُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ نَحْوَ هَذَا الْخِلَافِ مُخْتَصَرًا قَالَ‏:‏ وَمَنْ رَفَعَ ‏"‏ رَبَّنَا ‏"‏ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُؤَخَّرِ أَيْ رَبُّنَا غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ ‏"‏ غَيْرُ ‏"‏ قَالَ‏:‏ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَى الْحَمْدِ كَأَنَّهُ حَمْدٌ كَثِيرٌ غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ هَذَا الْحَمْدِ ‏,‏ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرِ مَتْرُوكِ الطَّاعَةِ وَقِيلَ‏:‏ هُوَ مِنْ الْوَدَاعِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَكَلَ ‏,‏ أَوْ شَرِبَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ‏"‏ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ سِنِينَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَرَّبَ إلَيْهِ طَعَامًا يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ بِسْمِ اللَّهِ ‏"‏ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ أَطْعَمْت وَسَقَيْت وَأَغْنَيْت وَأَقْنَيْت وَهَدَيْت وَاجْتَبَيْت فَلَك الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْت ‏"‏ وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الطَّعَامِ إذَا فَرَغَ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا وَالَذَى أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا وَكُلَّ الْإِحْسَانِ آتَانَا ‏"‏ ‏,‏ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا ‏"‏ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ ‏"‏ مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ ‏,‏ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَبَنًا فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ ‏"‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب يُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ بِالْأَكْلِ

وَأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهْمَةً وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ يَبْتَدِي ‏(‏وَيُكْرَهُ‏)‏ تَنْزِيهًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الَّذِينَ قَدَّمَ لَهُمْ الزَّادَ ‏(‏سَبْقُ الْقَوْمِ‏)‏ الَّذِينَ هُوَ مَعَهُمْ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ ‏(‏لِلْأَكْلِ‏)‏ قَبْلَ أَنْ يَمُدَّ الْآكِلُونَ أَيْدِيَهُمْ ‏(‏نَهْمَةً‏)‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ النَّهَمُ مُحَرَّكَةٌ وَالنَّهَامَةُ كَسَحَابَةٍ إفْرَاطُ الشَّهْوَةِ فِي الطَّعَامِ وَأَنْ لَا تَمْتَلِئَ عَيْنُ الْآكِلِ وَلَا يَشْبَعَ وَالنَّهِمَةُ الْحَاجَةُ وَبُلُوغُ الْهِمَّةِ وَالشَّهْوَةُ فِي الشَّيْءِ ‏,‏ وَهُوَ مَنْهُومٌ بِكَذَا مُولَعٌ فِيهِ ‏.‏

وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ النَّهِمَة بُلُوغُ الْهِمَّةِ فِي الشَّيْءِ وَمِنْهُ أَنْهَمَ مِنْ الْجُوعِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ ‏"‏ مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا ‏"‏ انْتَهَى ‏.‏

وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وجشاعة ‏,‏ وَهِيَ أَشَدُّ الْحِرْصِ قَالَ الشَّنْفَرَى يَمْدَحُ نَفْسَهُ فِي لَامِيَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ بِلَامِيَّةِ الْعَرَبِ ‏,‏ وَهِيَ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ فِيهَا‏:‏ وَكُلٌّ أَبِيٌّ بَاسِلٌ غَيْرَ أَنَّنِي إذَا عَرَضَتْ أُولَى الطَّرَائِدِ أَبْسَلُ ‏,‏ وَإِنْ مُدَّتْ الْأَيْدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ وَمَا ذَاكَ إلَّا بَسْطَةٌ عَنْ تَفَضُّلٍ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْأَفْضَلَ الْمُتَفَضِّلُ ‏,‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ وَكُلُّ أَبِيٍّ الَخْ الْأَبِيُّ هُوَ حَمِيُّ الْأَنْفِ الَّذِي لَا يُقِرُّ لِلضَّيْمِ ‏,‏ وَالْبَاسِلُ الْكَرِيهُ وَالطَّرَائِدُ الَّتِي تَطْرُدُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ وَكُلُّ أَيْ كُلُّهُمْ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَذَفَ الْمُضَافَ ‏,‏ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَبَقِيَ حُكْمُ الْإِضَافَةِ ‏,‏ وَهُوَ تَعْرِيفُ كُلٍّ وَلِذَلِكَ تَقُولُ‏:‏ مَرَرْت بِكُلِّ قَائِمًا وَبِكُلِّ قَاعِدًا فَتَنْصِبُ عَنْهُ الْحَالَ ‏.‏

وَمِنْهُ قوله تعالى ‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ‏}‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ فَكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَأَبِيٌّ خَبَرُهُ وَبَاسِلٌ خَبَرٌ ثَانٍ ‏,‏ أَوْ وَصْفُ الْخَبَرِ ‏,‏ وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّنِي اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ‏:‏ لَكِنْ أَنَا أَبْسَلُ مِنْهُمْ أَيْ أَشْجَعُ وَقْتَ ظُهُورِ الطَّرِيدَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ أَيْ فُرْسَانِ الْخَيْلِ ‏,‏ أَوْ بِمَعْنَى مَطْرُودَةٍ أَيْ الْخَيْلِ الَّتِي يَطْرُدُهَا فُرْسَانٌ أُخَرُ ‏,‏ وَقَوْلُهُ أَجْشَعُ أَيْ أَحْرَصُ وَبِأَعْجَلِهِمْ‏:‏ الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِشَيْءٍ وَحَسُنَتْ زِيَادَتُهَا مِنْ أَجْلِ النَّفْيِ بِلَمْ ‏,‏ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا كُنْت وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ وَمَا ذَاكَ إلَّا بَسْطَةٌ أَيْ سَعَةٌ وَذَاكَ كِنَايَةٌ عَنْ أَخْلَاقِهِ الَّتِي شَرَحَهَا ‏,‏ وَالْمَعْنَى مَالِي حَالٌ أَوْ خُلُقٌ إلَّا كَذَا ‏,‏ وَكَذَا ‏"‏ وَعَنْ تَفَضُّلٍ ‏"‏ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرُ ذَاكَ وَعَلَيْهِمْ يَتَعَلَّقُ بِتَفَضُّلٍ ‏,‏ وَ ‏"‏ الْأَفْضَلَ ‏"‏ خَبَرُ كَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا ‏,‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ وَكَانَ الْمُتَفَضِّلُ الْأَفْضَلَ يَعْنِي أَنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِإِيثَارِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ ‏,‏ وَمَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى أَقْرَانِهِ بِذَلِكَ يَكُونُ هُوَ الْأَفْضَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب يَبْتَدِئُ رَبُّ الطَّعَامِ بِالْأَكْلِ مَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَلُ مِنْهُ

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ‏,‏ وَيَبْدَأُ بِهِمْ الْأَكْبَرُ ‏,‏ وَالْأَعْلَمُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعَ يَدَهُ وَتَقَدَّمَ ‏.‏

‏(‏وَلَكِنَّ رَبَّ‏)‏ أَيْ صَاحِبَ ‏(‏الْبَيْتِ‏)‏ الْمُقَدِّمَ لِإِخْوَانِهِ الطَّعَامَ ‏(‏إنْ شَاءَ يَبْتَدِئُ‏)‏ بِالْأَكْلِ ‏;‏ لِأَنَّهُ طَعَامُهُ فَلَا يُحْرَجُ عَلَيْهِ فِيهِ ‏,‏ وَلَعَلَّ الْأَوْلَى لَهُ عَدَمُ الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ حَتَّى يَبْتَدِئَ الْأَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ ‏,‏ فَإِنَّ عُمُومَهُ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ غَيْرِهِ ‏.‏

وَعَلَى الْحَالَتَيْنِ الْمُبْتَدِئُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسَلُّمِ لَمَّا قَدَّمَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْعَجِلَ الْحَنِيذَ يَعْنِي الْمَشْوِيَّ عَلَى الْحَنْذِ ‏,‏ وَهُوَ الرَّضْفُ السَّمِينُ ‏,‏ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ وَأَكَلَ وَلَمْ تَأْكُلْ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ‏:‏ يَا إبراهام مَا بَالُ أَضْيَافِك لَا يَأْكُلُونَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ عليه الصلاة والسلام أَلَا تَأْكُلُونَ ‏;‏ بِصِيغَةِ الْعَرْضِ وَالتَّلَطُّفِ ‏,‏ فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ خَافَ مِنْهُمْ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ ذَلِكَ فَعَلِمَتْ الْمَلَائِكَةُ مَا أَوْجَسَهُ مِنْ الْخَوْفِ فِي نَفْسِهِ عليه السلام ‏.‏

فَأَظْهَرَتْ لَهُ ذَلِكَ وَبَشَّرُوهُ بِالْغُلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب لَا بَأْسَ مِنْ الشِّبَعِ الْغَيْرِ الْمُفْرِطِ

وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ ‏(‏وَلَا بَأْسَ‏)‏ أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا إثْمَ وَلَا كَرَاهَةَ ‏(‏عِنْدَ الْأَكْلِ‏)‏ ‏,‏ وَكَذَا الشُّرْبُ لِنَحْوِ اللَّبَنِ ‏(‏مِنْ شِبَعِ الْفَتَى‏)‏ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْفَتَى ‏,‏ وَالْمُرَادُ مِنْ شِبَعِ الْآكِلِ كَبِيرًا كَانَ ‏,‏ أَوْ صَغِيرًا ذَكَرًا ‏,‏ أَوْ أُنْثَى ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ لَوْ أَكَلْت كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ إسْرَافٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ فَلِلتَّأْدِيبِ لَا التَّحْدِيدِ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَقُولُ لَمَّا جَاءَهُ قَدَحٌ مِنْ لَبَنٍ وَأَمَرَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَسَقَاهُمْ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ ‏(‏اشْرَبْ‏)‏ فَشَرِبَ ‏,‏ ثُمَّ أَمَرَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى قَالَ‏:‏ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا ‏,‏ وَقَالَ فِي التَّرْغِيبِ‏:‏ لَوْ أَكَلَ كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ جَازَ ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجُوعِ عَلَى رَأْيَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَشْتَهِي الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَمَتَى طَلَبَ الْأَدَمَ فَلَيْسَ بِجَائِعٍ ‏.‏

ثَانِيهِمَا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ رِيقُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الذُّبَابُ ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ ‏.‏

 مطلب يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ وَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآكِلَ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَاتٍ أَرْبَعٍ‏:‏ إحْدَاهَا الشِّبَعُ غَيْرُ الْمُفْرِطِ ‏,‏ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ‏,‏ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَثْلَاثَ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ مُجَاوَزَةً غَيْرَ مُضِرَّةٍ لِلْآكِلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا إسْرَافَ ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ الشِّبَعُ الْمُفْرِطُ وَإِلَيْهَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ ‏(‏وَمَكْرُوهٌ‏)‏ تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ ‏(‏الْإِسْرَافُ‏)‏ فِي الْأَكْلِ وَقِيلَ‏:‏ إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ شُؤْمٌ ‏,‏ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي النَّفْرَةُ عَمَّنْ عُرِفَ بِذَلِكَ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَاِتَّخَذَهُ عَادَةً ‏.‏

وَلِهَذَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ‏:‏ رَأَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما مِسْكِينًا فَجَعَلَ يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ كَثِيرًا فَقَالَ‏:‏ لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي معى وَاحِدٍ ‏,‏ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ‏"‏ قُلْت ‏,‏ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي معى وَاحِدٍ ‏,‏ وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا ‏,‏ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي معى وَاحِدٍ ‏,‏ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ أَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَيْفًا كَافِرًا فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ‏,‏ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَ حِلَابَهَا ‏,‏ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَ حِلَابَهَا حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ‏,‏ ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ‏,‏ ثُمَّ أُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ ‏,‏ وَإِنَّ الْكَافِرَ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ‏"‏ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ ‏"‏ فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ ‏"‏ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ‏"‏ كُفَّ عَنَّا جُشَاءَك ‏,‏ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ أَبُو جُحَيْفَةَ ‏.‏

فَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ أَكَلْت ثَرِيدَةً مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ ‏,‏ ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْت أَتَجَشَّأُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا هَذَا كُفَّ عَنَّا مِنْ جُشَائِك ‏,‏ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاعْتَرَضَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ لَكِنْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ ‏,‏ وَالْأَوْسَطِ ‏,‏ وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ مِلْءَ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا كَانَ إذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى وَإِذَا تَعَشَّى لَا يَتَغَدَّى وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ‏:‏ فَمَا مَلَأْت بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ أَهْلَ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْجُوعِ غَدًا فِي الْآخِرَةِ ‏"‏ وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ ‏,‏ وَهِيَ بِخَضِرَةٍ مِنْ الْفَوَاكِهِ فَوَاقَعَ النَّاسُ الْفَاكِهَةَ فمعثتهم الْحُمَّى فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّمَا الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ وَسِجْنُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ‏,‏ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ ‏,‏ فَإِذَا أَخَذَتْكُمْ فَبَرِّدُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ فَصُبُّوهَا عَلَيْكُمْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ‏"‏ يَعْنِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ ‏,‏ وَالْعِشَاءِ قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَذَهَبَتْ عَنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ وِعَاءً إذَا مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ‏,‏ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلرِّيحِ ‏.‏

وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ ‏.‏

 مطلب يَنْبَغِي لِلْآكِلِ أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلْهَوَاءِ

‏(‏وَالثُّلْثُ‏)‏ أَيْ اقْصِدْ جَعْلَك بَطْنَك أَثْلَاثًا ‏,‏ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ‏(‏أَكِّدْ‏)‏ امْتِثَالًا لِمَا قَالَ الرَّسُولُ الشَّفِيقُ النَّاصِحُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الْمُرْشِدُ لِلْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ‏,‏ وَالْمُنْقِذُ مِنْ الْهَلَاكِ ‏,‏ وَالْمَفَاسِدِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ ‏,‏ وَالْعَلِيمُ الَّذِي أَتَى بِالْعِلْمِ النَّافِعِ ‏,‏ وَالْحَقِّ الْوَاضِحِ ‏.‏

وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ إنَّهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الطِّبِّ كُلِّهَا ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ ماسويه الطَّبِيبَ لَمَّا قَرَأَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ أَبِي خَيْثَمَةَ قَالَ‏:‏ لَوْ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حَسْبَ ابْنَ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ‏"‏ إلَى آخِرِهِ لَسَلِمُوا مِنْ الْأَمْرَاضِ ‏,‏ وَالْأَسْقَامِ وَلَتَعَطَّلَتْ الْمَارَسْتَانَاتُ وَدَكَاكِينُ الصَّيَادِلَةِ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا ‏;‏ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ التخم قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبُرْدَةُ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ ‏.‏

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ‏:‏ لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ ‏.‏

وَفِي الْإِحْيَاءِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي تَقْسِيمَ الْبَطْنِ أَثْلَاثًا لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ فَقَالَ‏:‏ مَا سَمِعْت كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْ هَذَا ‏,‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَثَرَ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَاضِحٌ ‏,‏ وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ ‏;‏ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْبَطْنَ سِوَاهَا وَهَلْ الْمُرَادُ بِالثُّلُثِ التَّسَاوِي عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْ التَّقْسِيمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُتَقَارِبَةٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْفَتْحِ مَحَلُّ احْتِمَالٍ ‏,‏ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى‏,‏ وَقَالَ ‏(‏الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ‏)‏ طَبِيبُ الْعَرَبِ‏:‏ ‏"‏ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ ‏,‏ وَالْبِطْنَةُ رَأْسُ الدَّاءِ‏)‏ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا قَالَ الْحَافِظُ ‏,‏ وَقَالَ الْحَارِثُ أَيْضًا‏:‏ الَّذِي قَتَلَ الْبَرِّيَّةَ ‏,‏ وَأَهْلَك السِّبَاعَ فِي الْبَرِّيَّةِ ‏,‏ إدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ ‏,‏ قَبْلَ الِانْهِضَامِ ‏.‏

 مطلب مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ

‏,‏ وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ‏:‏ مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ‏:‏ أَحَدُهَا مَرْتَبَةُ الْحَاجَةِ ‏,‏ وَالثَّانِيَةُ مَرْتَبَةُ الْكِفَايَةِ‏,‏ وَالثَّالِثَةُ مَرْتَبَةُ الْفَضِيلَةِ ‏.‏

فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَكْفِيهِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَلَا تَسْقُطُ قُوَّتُهُ وَلَا يَضْعُفُ ‏,‏ فَإِنْ تَجَاوَزَهَا فَلْيَأْكُلْ ثُلُثَ بَطْنِهِ وَيَدَعْ الثُّلُثَ الْآخَرَ لِلْمَاءِ وَالثَّالِثَ لِلنَّفَسِ ‏,‏ وَهَذَا أَنْفَعُ لِلْبَدَنِ ‏,‏ وَالْقَلْبِ ‏,‏ فَإِنَّ الْبَدَنَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطَّعَامِ وَضَاقَ عَنْ الشَّرَابِ ‏,‏ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الشَّرَابُ ضَاقَ عَنْ النَّفَسِ وَعَرَضَ لَهُ الْكَرْبُ وَالتَّعَبُ بِحَمْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ الثَّقِيلِ هَذَا مَعَ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَلْبِ وَكَسَلِ الْجَوَارِحِ عَنْ الطَّاعَاتِ ‏,‏ وَالْعِبَادَاتِ ‏,‏ فَالِامْتِلَاءُ مُضِرٌّ لِلْقَلْبِ ‏,‏ وَالْبَدَنِ ‏,‏ هَذَا إذَا كَانَ دَائِمًا ‏,‏ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْأَحْيَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ‏.‏

وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِشِبَعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِرَارًا بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَهَذَا بَعْضُ مَنَافِعِ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَتَرْكِ التَّمَلِّي مِنْ الطَّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَلَاحِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ ‏.‏

وَأَمَّا مَنَافِعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَلْبِ وَصَلَاحِهِ ‏,‏ فَإِنَّ قِلَّةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ وَقُوَّةَ الْفَهْمِ وَانْكِسَارَ النَّفْسِ وَضَعْفَ الْهَوَى ‏,‏ وَالْغَضَبِ ‏,‏ وَكَثْرَةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ ضِدَّ ذَلِكَ ‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ يَا ابْنَ آدَمَ كُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِك وَاشْرَبْ فِي ثُلُثٍ وَدَعْ ثُلُثَ بَطْنِك لِلنَّفَسِ لِتَتَفَكَّرَ ‏,‏ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ‏:‏ جَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه يُعَظِّمُ أَمْرَ الْجُوعِ ‏,‏ وَالْفَقْرِ فَقُلْت‏:‏ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تِلْكَ الشَّهَوَاتِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَكَيْفَ لَا يُؤْجَرُ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏؟‏ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً ‏,‏ وَهُوَ يَشْبَعُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أَرَى ‏.‏

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما‏:‏ أَلَا أَجِيئُك بجوارش قَالَ‏:‏ وَأَيُّ شَيْءٍ يَهْضِمُ الطَّعَامَ إذَا أَكَلْته قَالَ‏:‏ مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ أَدْرَكْت أَقْوَامًا يَجُوعُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُونَ ‏.‏

وَرَوَى يَحْيَى بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ قَالَ‏:‏ ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ هُوَ الْقُوتُ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ هُوَ الْقُوَى وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ هُوَ الرُّوحُ ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إيَّاكُمْ ‏,‏ وَالْبِطْنَةَ ‏,‏ فَإِنَّهَا مُكَسِّلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ وَعَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي قُوَّتِكُمْ ‏,‏ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِّ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ ‏,‏ وَإِنَّ امْرًَا لَنْ يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ خَصْلَتَانِ يُقْسِيَانِ الْقَلْبَ‏:‏ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ ‏.‏

وَرَوَى الْمَرْوَزِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَلَّ طَعْمُهُ فَهِمَ وَأَفْهَمَ وَصَفَا وَرَقَّ ‏,‏ وَإِنَّ كَثْرَةَ الطَّعَامِ لَيُثْقِلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ ‏,‏ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخَوَّاصُ‏:‏ حَتْفُك فِي شِبَعِك وَحَظُّك فِي جُوعِك إذَا أَنْتَ شَبِعْت ثَقُلْت فَنِمْت اسْتَمْكَنَ مِنْك الْعَدُوُّ فَجَثَمَ عَلَيْك وَإِذَا أَنْتَ تَجَوَّعْت كُنْت لِلْعَدُوِّ بِمَرْصَدٍ ‏.‏

وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ‏:‏ إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُعَيَّرُ بِالْبِطْنَةِ كَمَا يُعَيَّرُ بِالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ ‏,‏ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ‏:‏ مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مَلْأَى ‏,‏ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ مَا شَبِعْت مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً ‏,‏ وَقَالَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْبَعَ الْيَوْمَ مِنْ الْحَلَالِ ‏;‏ لِأَنَّهُ إذَا شَبِعَ مِنْ الْحَلَالِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ ‏.‏

فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ هَذِهِ الْهِمَمَ الْعَلِيَّةَ ‏,‏ وَالْأَنْفُسَ الزَّكِيَّةَ ‏,‏ وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ ‏,‏ نَتَضَلَّعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْذَارِ ‏,‏ وَلَا نَتَزَوَّدُ لِتِلْكَ الدَّارِ ‏.‏

عِيَاذًا بِك اللَّهُمَّ مِنْ مُرِّ الْأَقْدَارِ ‏,‏ وَالْخُلُودِ إلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ الْمُوجِبَةِ إلَى دُخُولِ النَّارِ ‏.‏

وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ ‏.‏